فصل: تفسير الآيات (7- 10):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (7- 10):

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)}.
التفسير:
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} النجوى: المناجاة التي تكون بين اثنين أو أكثر، في تخافت، وتهامس بعيدا عن أسماع الناس. وأصل النجوى من النجوة، وهى المكان المرتفع، حيث ينجو به الإنسان عادة من أن تناله الأعين، أو الأسماع، أو الأيدى.
والخطاب هنا للنبى صلى اللّه عليه وسلم، ولكل من هو أهل لتلقّى الخطاب والإفادة منه.. والاستفهام، يراد به فضح هؤلاء المتناجين، وضبطهم وهم متلبسون بهذا الإثم الذي يتعاطونه بينهم.
ومناسبة الآية لما قبلها، هي أن اللّه سبحانه قد ذكر في الآيات السابقة أنه يتوعد الكافرين الذين يعتدون على حرماته، بالعذاب الأليم المهين، وذلك في الآخرة، يوم يبعثهم اللّه جميعا، فينبئهم بما عملوا، وقد أحصى كل أعمالهم التي نسوها- فجاءت هذه الآية تحدث عن علم اللّه سبحانه وتعالى، وأنه علم وسع كل ما في السموات وما في الأرض، وأنه ما يكون من مناجاة بين ثلاثة إلا كان اللّه سبحانه وتعالى، مشاهدا هذه المناجاة التي بينهم حتى لكأنهم أربعة وليسوا ثلاثة.. وهذا يعنى أن ما يحسبونه سرا بين ثلاثتهم، ليس بسرّ، فقد حضره اللّه سبحانه وتعالى.. وكذلك ما يجتمع خمسة الحسارة إلا كان اللّه سبحانه سادسهم، يشهد الحديث الذي يديرونه بينهم، ويريدون إخفاءه عن غيرهم.
وفى قوله تعالى: {وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ} هو استيفاء لجميع أعداد المجتمعين للنجوى.. من واحد يناجى نفسه، إلى ما لا نهاية له من الذين يتناجون فيما بينهم.
وعلى هذا، فلا محلّ للتساؤل عن الحكمة في ذكر هذين العددين: ثلاثة وخمسة، إذ لو ذكر أي عدد غيرهما لكان هذا التساؤل واردا عليه أيضا.
ولا يقطع هذا التساؤل إلا إذا ذكرت الأعداد جميعها، ابتداء من الواحد، إلى ما لا نهاية، وهذا ما لا يكون في كتاب غايته تقويم الأخلاق، وتهذيب النفوس، لا تربية الملكات الذهنية، وتدريب العقول الرياضية.
وقوله تعالى: {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ} تهديد ووعيد لهؤلاء الذين يتناجون بما لا يحل من القول.. فاللّه سبحانه مطلع على ما يتناجون به، وسيحاسبهم عليه.
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} الذين نهوا عن النجدي: هم المنافقون، من الذين أظهروا الإسلام، واستبطنوا الكفر، من اليهود وغيرهم.
وقد وردت آيات كثيرة تفضح المنافقين، وما يدبّرون من كيد للنبى والمؤمنين، كما حملت هذه الآيات نذرا إليهم بالويل والبلاء في الدنيا والآخرة، إن هم لم يستقيموا على طريق الإيمان، ولم يخلصوا دينهم للّه.. ومن ذلك قوله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً} [108: النساء].
وهذه الآية تشنيع على المنافقين، ونذير من النذر إليهم، يفضح هذا النفاق الذي يعيشون فيه بين المؤمنين. إنهم ما زالوا على نفاقهم، لم يخرجوا منه، ولم ينتهوا عما نهوا عنه، فهم- حيث ضمهم مكان لا يكون لهم حديث إلا هذا الحديث الآثم، الذي يدبّرون فيه السوء، والمكروه للنبى وللمسلمين.. {وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ}.
هذا هو ما يتسارون به من أحاديث، وما يجرى على ألسنتهم من قول.. هو إثم، وعدوان، ومعصية للرسول.
وقوله تعالى: {وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ}.
هو فضح لأسلوب من أساليبهم الخبيثة التي دبروها فيما بينهم، وهو أنهم إذا جاءوا إلى الرسول حيّوه بتحية منافقة، يبدو ظاهرها سليما مقبولا، ولكنها تلف في باطنها إثما غليظا، ومنكرا شنيعا، حيث يقولون قاتلهم اللّه: السام عليكم يقولون ذلك بألسنة معوجة، تدغم فيها حروف الكلمة، فلا يستبين وجهها، فلا هي السام، ولا هي السلام.. إنها كلمة منافقة لا وجه لها، من أفواه منافقة مداهنة، لا يعرف وجه أصحابها.. والسام: الموت، والهلاك.. فهذه تحية المنافقين للنبى.. تحية بالدعاء عليه، لا بالدعاء له، وهى غير ما حياه اللّه به- في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [56: الأحزاب] وهى غير ما أمر اللّه المؤمنين أن يحيّوا النبي به.. في قوله سبحانه: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [56: الأحزاب].
وفى قوله تعالى: {بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} تنويه بقدر النبي الكريم، ومنزلته عند ربه، وأنه سبحانه إذ يحييه تلك التحية المباركة الطيبة، فلا عليه إذا حياه المنافقون تلك التحية الآثمة المنكرة.
وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ} أي ومن مقولاتهم المنكرة التي يقولونها فيما بينهم وبين أنفسهم: {لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ} أي هلّا يعذبنا اللّه بما نقول من سوء في محمد؟ إنه لو كان محمد على صلة باللّه كما يدّعى لما خلّى اللّه بيننا وبينه، نرميه بالمنكر من القول، ثم لا يعاقبنا على ذلك؟! بل إنهم ليذهبون في الضلال إلى أبعد من هذا، فيستدعون العذاب من اللّه، إن كان للّه غيرة على محمد، ورعاية له!.
وقوله تعالى: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.
هذا هو جواب ما سألوه من العذاب، وهو عذاب الآخرة، حيث يصلون نار جهنم، وذلك هو مصيرهم الذي يصيرون إليه وهم سائرون في طريق الضلال، وإنه لبئس المصير.. أفليس ذلك حسبهم من العذاب؟ ألا يكفيهم ما يلقون في جهنم من عذاب؟ أيريدون بعد هذا مزيدا منه؟.
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}.
هو دعوة إلى هؤلاء المنافقين، الذين أظهروا الإيمان واستبطنوا النفاق، أن تكون مناجاتهم إذا تناجوا فيما بينهم، بعيدة عن مواطن الضلال والريب، وخالصة من الإثم والعدوان، ومعصية الرسول، محملة بالبر والتقوى، حيث يتبادلون الكلمات الطيبة، ويتناجون بها، فتكون رسل هدى، وخير، تسعى بينهم بالأمن والسلام، وتفتح لهم الطريق إلى البر والتقوى.
وقد جاء الخطاب إلى هؤلاء المنافقين بقوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وذلك لإلفاتهم إلى هذا الإيمان الذي دخلوا به في جماعة المؤمنين، وأخذوا به مكانهم بينهم، ثم هم في الوقت نفسه حرب على المؤمنين، يضمرون العداوة لهم، ويبيتون السوء والضرّ بهم.. وهذه حال منكرة، ينبغى أن ينكروها هم على أنفسهم قبل أن ينكرها الناس عليهم.. فإما أن يكونوا مؤمنين، فلا يصل إلى المؤمنين منهم ما يسوء، وإما أن يكونوا على غير الإيمان، فيكون لهم أن يكيدوا للمؤمنين كما يكيد لهم الكفار والمشركون.. فالناس:
إما مؤمنون، وإما كافرون.. وهؤلاء ليسوا مؤمنين، وليسوا كافرين.
إنهم مذبذبون بين ذلك.. لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء.. وتلك أسوأ حال يكون عليها إنسان، حيث لا وجه له يعرف به في الناس.. إنه الوجه المنافق الذي يلبس أكثر من وجه!.
وقوله تعالى: للمنافقين {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} يحقق أمرين:
أولهما: فضح هؤلاء المنافقين عند أنفسهم، وضبطهم متلبسين بالكيد للمؤمنين، وهم في زىّ الإيمان.. وهذا من شأنه أن يخزيهم عند أنفسهم، وأن يحقر بعضهم بعضا، حين ينظر أحدهم إلى وجه صاحبه، فيراه مؤمنا يكيد للمؤمنين.
وثانيهما: أن نداءهم بالمؤمنين دعوة مجددة لهم إلى أن يكونوا مؤمنين حقّا، فهم إلى هذه اللحظة محسوبون في المؤمنين، لم يفضحهم اللّه بعد، ولم يطلع النبيّ والمؤمنين على خبيئة أنفسهم، بل ستر اللّه عليهم ما هم عليه من نفاق، وإن هذا الأمر لن يطول بهم، فإن لم يبادروا إلى الخروج من هذا النفاق المضروب عليهم، فضحهم اللّه، فلم يكن لهم بين المؤمنين مكان!.
قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}.
النجوى، هنا، هي النجوى المعهودة من المنافقين، وليست مطلق النجوى، فالحرف {ال} هنا للعهد، حيث النجوى التي أشار إليها سبحانه بقوله:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى...} الآية أي أن هذه النجوى التي يتناجى بها المنافقون، هي من تدبير الشيطان وكيده للمؤمنين، إذ يتخذ من هؤلاء المنافقين سلاحا يحارب به المؤمنين، حيث يجمع المنافقين على هذه المجالس الآثمة، فيتناجون فيما بينهم، ويتهامسون ويتغامزون على ملأ من المؤمنين، فيخيل للمؤمنين أن القوم يدبرون لهم كيدا، أو يظهرون بهم شماتة لأحداث يحيّلون للمؤمنين بهذه المناجاة أنها وقعت، ولم يعلمها المؤمنون بعد، أو لأحداث ستقع لم يكن عند المؤمنين حساب لها.. وهكذا نحدث هذه النجوى بلبلة واضطرابا في نفوس المؤمنين، فتذهب بهم الظنون كل مذهب، وتتداعى عليهم دواعى الضيق والحزن، ويشتمل عليهم ضباب كثيف، مما تتلمظ به هذه الشفاء الآثمة. من منكرات، وما تتغامز به العيون الزائغة من نظرات وإشارات.
وقوله تعالى: {وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي أن الشيطان لن يضر المؤمنين بهذا الكيد الذي يكيده لهم، وأن ما قد يقع للمؤمنين من ضر فهو مما قدره اللّه لهم، وشاءه فيهم. وقد يجيء هذا الضرر عن طريق الشيطان أو غيره، ولكن لا الشيطان ولا غيره يمستطيع أن يضر أحدا إلا من شاء اللّه له هذا الضر.
وقوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} هو دعوة للمؤمنين ألّا يحفلوا بما يتناجى به هؤلاء المنافقون، وألا يعملوا له حسابا، فإن ذلك لن يأتيهم شر منه، إلا ما كان قد قدره اللّه عليهم.. وإذن فليتوكلوا على اللّه، وهو حسبهم ونعم الوكيل.

.تفسير الآيات (11- 13):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13)}.
التفسير:
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} التفسح في المجالس: التوسعة فيها، حيث يسع بعضهم بعضا، وحيث يجد الطارئ عليهم، مكانا بينهم.
انشزوا: النشز، المكان المرتفع من الأرض، والخارج على المنبسط منها.
والمراد بالنشوز هنا، الخروج من المجلس.. ومنه الناشز، وهى المرأة الخارجة عن طاعة زوجها، والنشاز من كل شيء: الخارج على الوضع العام له.. ومنه قوله تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً} [259: البقرة] ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هي أن الآيات السابقة، أشارت إلى مجالس يتناجى فيها أهل المجلس، ويفضى بعضهم إلى بعض بسره.. أما المنافقون فلا يتناجى بعضهم إلى بعض إلا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول، وأما المؤمنون فيتناجون بالبر والتقوى.. فناسب ذلك أن يذكر ما ينبغى أن يأخذ به المؤمنون أنفسهم، من آداب في مجالسهم العامة التي لا مناجاة فيها والتي يباح لأىّ منهم أن يأخذ مكانه فيها، وذلك، حتى لا يقع في مجلسهم ما يثير ضغينة، أو يوقع عداوة.
ومما ألزم اللّه سبحانه وتعالى به المؤمنين من آداب المجلس، أن يوسع بعضهم لبعضهم، وأن يفسحوا للقادم عليهم مكانا بينهم، فهو أشبه بالضيف، ومن حق الضيف الترحيب به، وإنزاله منزل الإكرام.. وإكرام الوافد على المجلس، هو أن يجد له مكانا بين أهل المجلس، وأن ينزل المنزل المناسب له بينهم، حسب دينه، وعلمه.. فلا يتصدر المجلس جاهل وفى المجلس عالم، ولا يتصدره من رقّ دينه وفى أهل المجلس من كان ذا دين وتقوى.. وفى المأثور: «أنزلوا الناس منازلهم» ويذكر المفسرون لهذه الآية سببا للنزول، فيقولون: إن الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه، كان في مجلس وحوله بعض أصحابه، فجاء بعض وفود العرب إلى النبي، فسلموا فرد النبي والمسلمون عليهم السلام، ولم يفسح لهم أحد مكانا في المجلس، فلما رأى النبي ذلك، قال: قم يا فلان وقم يا فلان ويا فلان.. ثم دعا الوفد إلى الجلوس.. قالوا، فساء ذلك المسلمين الذين دعوا إلى القيام من مجلسهم، وشنع المنافقون واليهود على المسلمين بهذا، وقالوا لهم فيما قالوا: كيف يقول نبيكم إنما المؤمنون إخوة، ثم يكون منه هذه التفرقة في المعاملة بين أصحابه، فيخرج بعضا من المجلس دون بعض؟
وهذه المقولات التي تروى عن سبب نزول الآية الكريمة تبدو- على إطلاقها- واهية، لا معقول لها. وذلك:
أولا: أنه ليس من أخلاق العرب أن يفد عليهم وافد ثم لا يلقونه بالترحيب والاحتفاء، عدوّا كان أو صديقا.. فكيف بمن يفد على النبي؟ أفيعقل أن يفد على النبي وافد وهو بين أصحابه، ثم لا يلقاه أصحابه بالحفاوة والتكريم، ولا يفسحون له مكانا بينهم؟.. ذلك محال.
وثانيا: أيكون من أدب صحابة رسول اللّه، الذين يجلسون إليه أن تجمد مشاعرهم هذا الجمود، فلا يتحركون لوافد يفد على الرسول، حتى يدعوهم الرسول هذه الدعوة التي يخرجهم بها من مجلسه؟
وثالثا: أيكون من أدب النبوة أن يجرح الرسول بعض صحابته هذا الجرح الغائر، فيخرجهم عن أماكنهم، ويلقى بهم خارج المجلس؟ إنه لو اضطر الرسول الكريم إلى مثل هذا الموقف، لكان من تدبيره- صلوات اللّه وسلامه عليه- أن يتحول بأهل المجلس جميعا إلى مكان متّسع غير هذا المكان، ثم لأخذ بيد ضيفه الوافدين عليه، ولأنزلهم منزلهم في المجلس الجديد.
أما قوله تعالى: {إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا} فإن القول هنا ليس بلسان المقال، وإنما هو بلسان الحال. ومعنى هذا أنه إذا وجد المسلمون في مجلس، ثم دعت الحال إلى أن يدخل عليهم غيرهم، كان واجبا عليهم أن يفسحوا لهذا الغير، وأن يسعوه في مجلسهم، دون أن يقال لهم افسحوا.
فإن الانتظار إلى أن يقال لهم هذا القول لا يليق بالمؤمنين، فذلك أمر لا يكون إلا عن طباع بليدة، ونفوس جفّت مشاعر الإنسانية فيها.
وكذلك الشأن إذا دعت الحال إلى أن ينصرف أهل المجلس، وأن يغادروا مجلسهم بعد أن يأخذوا حاجتهم منه، فإن الجلوس بعد هذا مضيعة للوقت، داعية إلى طرق أحاديث من اللغو، والبعث بعد أن فرغ حديث الجد والنفع.
فليس هناك في تلك الحال قول يقال لأهل المجلس: أن انشزوا وانفضوا، وإنما الحال نفسها هي التي تدعو إلى انفضاض المجلس.. وهذا من شأنه أن يقيم المؤمن على حال من الوعى واليقظة، والالتفات الدائم إلى نفسه، والتنبه إلى ما حوله من الناس والأحداث، فلا يكون أبدا في حال من الذهول والتبلد، بحيث لا يتحرك إلا بمهماز، كما تتحرك الدواب البليدة بالسياط تنهال عليها.
وإذا أردنا أن نلتمس لهذا الخبر متأوّلا- على فرض صحته- فهو أن النبيّ صلوات اللّه وسلامه عليه، لم يقل هذا القول إلا لجماعة من المنافقين، كانوا يحضرون مجلس النبيّ، ممن أشار إليهم سبحانه وتعالى بقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ} [16: محمد]- فكان قوله صلوات اللّه وسلامه عليه، قم يا فلان، وقم يا فلان- هو إشارة إلى هؤلاء المنافقين، وفضحهم عند أنفسهم، وخزيهم بين جماعة المسلمين التي دخلوا فيها متلصصين، متربصين وقوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ}.
هو إشارة إلى هذه المشاعر اليقظى، وتلك الأحاسيس المرهفة، التي ينبغى أن يكون عليها المؤمن، فإنه بقدر ما يكون عليه المؤمن من هذه المشاعر وتلك الأحاسيس، بقدر ما تكون منزلته في الإنسانية.
والإيمان من شأنه أن يربىّ هذه المشاعر، وينمّى هذه الأحاسيس، وبمقياس الإيمان، تقاس هذه المشاعر وتلك الأحاسيس.
والعلم، شأنه في هذا شأن الإيمان، في رفع إنسانية الإنسان، وإعلاء منزلته.. فالإيمان، هو في حقيقته علم، والعلم في حقيقته إيمان.. وإن إيمانا لا يقوم على علم، هو إيمان هزيل باهت، لا يؤثر أثرا، ولا يطلع زهرا ولا ثمرا.
وإن علما لا يفتح للعقل والقلب طريقا إلى الإيمان، ولا تنقدح منه شرارات مضيئة، تضيء للإنسان طريقه إلى اللّه، هو نار تحرق، أو دخان يعمى العيون، ويزكم الأنوف، ويخنق الصدور.
وقد جمعت الآية الكريمة بين الإيمان والعلم، وجعلت كلّا منهما صفة لموصوف، كما يقول سبحانه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} ولم يجيء النظم هكذا: يرفع اللّه الذي آمنوا منكم وأوتوا العلم.
وذلك أن من الناس من يبدأ الطريق بالعلم، ثم يقوده هذا العلم إلى الإيمان.. ومنهم من يبدأ الطريق بالإيمان ثم، يقوده الإيمان إلى العلم.
فالمؤمن حقّ الإيمان.. عالم.
والعالم حقّ العلم.. مؤمن.
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
دعا اللّه سبحانه وتعالى المؤمنين في آية سابقة، إلى أن تكون مناجاتهم بالبر والتقوى، حيث يقول سبحانه: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (9: المجادلة) فمناجاة المؤمنين بعضهم بعضا ينبغى أن تقوم على البر والتقوى.. فكيف إذن تكون مناجاتهم الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه؟ إنها حينئذ ينبغى أن تكون المناجاة الخالصة للبر والتقوى.
ولهذا جاء قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً} والمراد بتقديم الصدقة هنا قبل مناجاة الرسول، هو أن يلقى المؤمن رسول اللّه على طهارة وتزكية بهذه الصدقة التي يقدمها.. فالصدقة مرضاة للربّ، مطهرة القلب، كما يقول سبحانه: {خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها} [103: التوبة].
وليس المراد بتقديم الصدقة هنا، أن توضع بين يدى النبي صلوات اللّه وسلامه عليه، وإنما المراد بها أن توضع في يد من يستحقها من الفقراء والمساكين وابن السبيل.
وهذه الصدقة التي يقدمها المؤمن الذي يغشى مجلس الرسول، هى- كما قلنا- مطهرة لهذا المؤمن، وإعداد له كى يلتقى بالنبي الكريم، وينتفع بهديه، حيث يكون في تلك الحال على قرب نفسىّ وروحى منه.. إن ذلك أشبه بالطهارة قبل الصلاة.. فالصلاة مناجاة للّه سبحانه وتعالى، ودخول إلى ساحة مغفرته ورضوانه، والطهارة قبل الدخول في الصلاة، هي التي تهيئ المؤمن نفسيّا وروحيّا للاتصال باللّه سبحانه، والقرب منه جل وعلا.. إنها أشبه بالاستئذان قبل الدخول.. فكما أنه لا يجوز للمؤمن أن يدخل بيتا غير بيته من قبل أن يستأذن، رعاية لحرمة المسكن وأهله- فكذلك ينبغى على المؤمن ألا يقتحم مقام الرسول، ويغشى حماه الطهور، من غير أن يقف بين يدى هذا الحمى، وأن يقدّم صدقة، يدخل منها على مشاعره أنه لن يؤذن له بالدخول إلى هذا الحمى، من غير استئذان! وقوله تعالى: {ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} أي هذا الفعل الذي تفعلونه بتقديم الصدقة قبل مناجاتكم الرسول- هو خير لكم، وأطهر، حيث يرضى اللّه سبحانه وتعالى عنكم، ويطهركم من ذنوبكم، فيكون لقاؤكم للرسول على صفاء نفس، وشفافية روح، فتصيبون كثيرا من الخير الذي بين يديه.
قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فإن لم تجدوا صدقة تقدمونها، فلا حرج عليكم، إذ لا يكلف اللّه نفسا إلا وسعها، واللّه سبحانه يغفر لكم ذنوبكم، ويطهركم، حتى إذا ناجيتم الرسول كنتم على حال من الطهر كحال الذين قدموا صدقات بين يدى نجواهم، فاللّه سبحانه غفور، أي كثير المغفرة، تسع مغفرته الخلق جميعا، وهو رحيم بكم، فلا يحرمكم مغفرته التي قصرت أيديكم عن أن تنالوها بالصدقة.
وقوله تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ}.
المفسرون يكادون يكونون على إجماع بأن هذه الآية ناسخة للآية التي قبلها.. بمعنى أن تقديم الصدقة من المؤمن الذي يودّ مناجاة الرسول، قبل أن يدخل في مناجاته، والذي دعت إليه الآية السابقة- قد جاءت هذه الآية ناسخا له، تخفيفا على الذين يودون مناجاة النبي.
ويقولون لتعليل هذا النسخ، إنه لما نزل قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً}.
شقّ ذلك على كثير من المؤمنين، وضنّ كثير من الأغنياء بأموالهم أن يخرجوا منها صدقة عند مناجاة الرسول، وبهذا قلّت تلك الأعداد الكثيرة التي كانت تسعى إلى مناجاة النبي، فنزلت الآية: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ} فنسخت الآية التي قبلها، وأبيح للمؤمنين مناجاة الرسول من غير صدقة يقدمونها بين يدى نجواهم!! ونحن على رأينا من أنه لا نسخ في القرآن، وأنه لا نسخ في هذه الآية بالذات.. وذلك من وجوه.
أولا: أن الصدقة التي دعى المؤمنون إلى تقديمها بين يدى نجواهم غير محددة المقدار، ومن هنا كانت أىّ صدقة يقدمها المؤمن في هذا المقام مجزية له، ولو كانت شقّ تمرة.. وإذن فليس في هذه الصدقة ما يشق على المؤمنين، حتى يجيء الأمر بنسخ تقديم هذه الصدقة.
وثانيا: ليس ما جاءت به الآية من الأمر بتقديم الصدقة- واللّه أعلم- أمرا ملزما، يقع موقع الوجوب، بل هو أمر للندب والاستحباب، ولذلك علّل له بقوله تعالى: {ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ}.
ثم جاءت المجاوزة عنه عند عدم وجود الصدقة: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
وثالثا: قوله تعالى في الآية التي يقال إنها ناسخة: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ} ليس معنى كلمة الإشفاق هنا الضنّ بالمال الذي ينفق في هذا الوجه، وإنما هو الخوف من ألا يجد المؤمنون ما يتصدقون به في كل وقت يلقون فيه رسول اللّه صلوات اللّه وسلامه عليه.. وكثير منهم كان يلقى النبي كل يوم مرات كثيرة.. وخاصة صحابته الذين كانوا على اتصال دائم به، كأبى بكر، وعمر، وعثمان، وعلى، وعبد الرحمن بن عوف، وأبى عبيدة، وطلحة، والزبير، وأبى هريرة وغيرهم.. فهؤلاء الصحابة الكرام وأمثالهم، يشق عليهم أن يحجبهم عن الرسول حجاب في نهار أو ليل، وكثيرا ما تكون الصدقة غير ممكنة لهم في كل حال.. فهم- والأمر كذلك- بين حالين: إما، ألّا يلتقوا بالرسول حتى يقدموا بين يدى لقائهم صدقة.. وفى هذا إعنات شديد لهم، وخاصة أن لقاءهم للنبى يتكرّر مرات في اليوم.. وقد لا يكون بين يدى أحدهم ما يقدمه من صدقة.. وإنه ليس بالذي يرضى نفس هؤلاء الصحابة الكرام أن يكون لقاؤهم للنبى من غير تقديم صدقة، حيث يدخلون في حكم قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
فإن ذلك- وإن كان يبيح لهم لقاء النبي ومناجاته من غير صدقة- إلا أنه يضعهم في موضع لا يحبونه، ولا يرضونه لأنفسهم، إنهم يطلبون أن يكونوا على أحسن أحوالهم في لقائهم للنبى، وإنهم ليعدّون أنفسهم مقصّرين، إذا هم التقوا بالرسول من غير تقديم الصدقة، وإن كان ذلك متجاوزا لهم عنه!.
وإنه لكى يزول هذا الحرج من صدور الصحابة الذين لا يجدون الصدقة التي يقدمونها بين يدى مناجاتهم الرسول- جاء قوله تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ}.
وجاء لفظ الصدقات جمعا، لا مفردا، وفى ذلك دليل على أن المراد بهذا، هم الصحابة الذين كانوا على لقاء دائم بالنبي، ذلك اللّقاء الذي يدعوهم إلى تقديم صدقات كلّ يوم، لا صدقة واحدة.
ومن جهة أخرى، فإنه من المحال أن يضنّ واحد من صحابة رسول اللّه بماله كله، ويمسك به، إذا كان هذا المال وسيلة إلى لقاء النبي.. فكيف والصدقة المطلوبة هي بعض من هذا المال؟.
ورابعا: قوله تعالى في هذه الآية أيضا: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} يشير إلى أن الذين لم يفعلوا، أي لم يستطيعوا تقديم الصدقة- لا ضنّا بها، ولكن عجزا عنها- هؤلاء قد تاب اللّه عليهم، أي رحمهم، ورفع عنهم الحرج، وأفسح لهم الطريق إلى مناجاة النبي من غير تقديم الصدقة التي عجزوا عنها.
فالتوبة هنا، معناها الرحمة، والقبول، والرضا، فهى توبة من اللّه سبحانه وتعالى عليهم، أي عود عليهم منه سبحانه وتعالى بفضله ورحمته. ومثل هذه التوبة ما جاء في قوله تعالى: {لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ} [117: التوبة] فالتوبة هنا توبة رضى وإحسان.
أما التوبة من العبد، فهى رجوع إلى اللّه بالندم، والانخلاع من المعصية.
وقوله تعالى {وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} جملة حالية من الفاعل في قوله تعالى: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا} أي إذ لم تقدموا الصدقة في حال قد قبلكم اللّه عليها، ورحمكم فيها.
وقوله تعالى {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ} هو جواب {إذ} التي تفيد مع الظرف معنى الشرط.. أي فإذ قد رحمكم اللّه، وعاد بفضله عليكم، ورفع عنكم الحرج في لقاء النبي من غير تقديم صدقة- فأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأطيعوا اللّه ورسوله، فذلك هو شكركم للّه سبحانه وتعالى على ما فضل به عليكم.
ففى إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة اللّه ورسوله، ما يقربكم من الرسول، ويقيمكم أبدا على طهارة دائمة، أشبه بمن يمدّ يده بصدقات لا تنقطع أبدا.
وعلى هذا فإنه ليس بين الآيتين تناسخ، بل إن كلا الآيتين من المحكم، وأنهما يتناولان أمرا واحدا، ويعالجان قضية واحدة، لا تتم أركانها إلا بالآيتين معا.. واللّه أعلم.